رحلتي في دنيا الكتابة

رحلتي في دنيا الكتابة

كلمة الكاتب

في ملتقى أدب التسعينات

بالمنستير سنة 1994

 

سادتي / إن الحديث عن رحلتي في الدنيا الكتابة، و قصتي مع الحرف العربي و مدى ما لا قيت في سبيل محاولة استنكاره ألغازه و السعي لفهم بعض خفاياه، و الوقوف على أسراره، من عناء التيه و الإغتراب، و ضنك الصبر و المقاساة، و الاكتواء، تقتضيني حتما الحديث عنرحلتي في دنيا القراءة، إذ هما طرفان لأمر واحد و الموضوع ببعديه القرائي في هذه الرحلة بالذات، يعني الحديث عن النفس. و لست أدري لما أنا و منذ الحداثة أكره و بضراوة التكلم عن نفسي، و ليس ذلك فيماأظن تواضعا، و لا من باب نكران الذات،و لا بدواعي الرغبة في حياة الظل. و إنما كما أعتقد أنه ليس لدي ما يستحق الحديث عنه في حياتي إجمالا، و خاصة فيما يتعلق بتجربتي المتواضعة في مجالي القراءة و الكتابة، فأنا و الحق يجب أن يقال لا أعتبر نفسي كتابا متخصصا في أي جنس من أجناس الأدب، و كل ما هناك أني لازلت بالرغم من تقديمي في العمر، أمارس الكتابة كهاوٍ يخوضُ غمار التجريب، و البحث المستمر عن وسائل تطوير الكتابة و تحديث أدواتها عن طريق القراءة التي لم أتون قط عن توسيع دائرة محيطها.

سادتي الأعزاء / يليق بي منذ البدء إخطاركم بأني لما اخترت عبارة "رحلتي في دنيا الكتابة" عنواناً لحديثي معكم كنت استقطب ما تتضمنه العبارة و توحي به من هموم معاناة الارتحال، و عذابات السفر، و احتمالات الضياع، و توقعات عدم الوصول. و الأن اسمحوا لي أيها السادة أن أروي لكم بعد هذا التمهيد قصة الكاتب بإيجاز أرجو آلا يكون مخلا أو مملا.

كان الصبي الخجول حائرا، خائفا و هو يضع أولى خطواته على عتبة دنيا القراءة، لم يكن حينذاك يجروً على التساؤل أو يملك حرية الاختيار، أو حق التراجع لأنه محكوم عليه أن يمضي غير ملتفت أو متذمر، ليقرأ ما لا يفهم، و يحفظ منه ما تيسر تلقينا، ثم تلاوة و تكرار و حفظاً، كلمات صعبة، معان مستعصية. محيط التعلم و أجواؤه، يسودهما الغموض و تتحكم فيهما القساوة و العنف، أساليب التلقين و التعليم بدائية فجة لا تخضع لقواعد التربية و طرق التدريس. مضت سنة و أخرى و ثالثة دون أن يتمكن الصبي من استجلاء الغوامض، و أخرى فهم بعض مما يقرأ، و لو جزءا ضئيلا. و تصرمت سنة أخرى و قد تمكن من القراءة و كتابة ما يملى عليه طبقا لقواعد الإملاء القرآنية، و التي تختلف شكلا مع المتداول من المقروءات الاخرى ... و فجأة و دون أن يدري وجد نفسه يغشى عوالم السحر، و الجن، و العفاريت، عوالم خرافية مفعمة بالغرائب و الاعاجيب، مشحونة بالأشواق و الترقب و الرغبة في الاستزادة. كان ذلك من خلال كتب ألف ليلة و ليلة و سيف بن ذى يزن، و عنترة بن شداد، و رأس الغول، و ذات الهمة، و كتب أخرى تشبهها، و رقها أصفر ألوانها باهتة، حروفها دقيقة أسطرها متراصة، و كانت تلك بداية الصبي أنذاك في مرحلة انعتاق الخيال و الادلاج في عوالم اللامعقول و دنيا الأشباح و المردة و الشياطين. و ظل هكذا نضو أسفار مرتحلا، و كانت تنمو لديه، ملكة حب القراءة و النزوع للضرب في المجاهيل، و الإنطلاق بعيدا عن الواقع في العوالم المسحورة و الأجواء الضبابية الغانمة، و شاء قدر الصبي في تلك الاثناء ان ينتقل الى إحدى مدن الجنوب الشرقي لدراسة الفقه و قواعد اللغة و الأدب لدى أحد الشيوخ الاجلاء ممن يدرس في المسجد، حيث يحيط الطلاب به في حلقة مستديرة تضيق أحيانا أو تتسع بأنواع من طلاب المعرفة كبارا و صغارا و من مستويات مختلفة، و انتهت السنة و ليس في رأس الصبي أو ذهنه غير خليط من المعلومات المتداخلة يشتبك فيها الفقه و اللغة مع التاريخ و الشعر، دون أن يتقن أيا منها أو يتمكن من الالمام بجوانب بعضها، كان ذلك سنة 1945. و قد تناهى إلى سمع الفتى حينذاك ان هناك عددا من أبناء القرى المجاورة ذهبوا للدراسة بجامع الزيتونة بتونس التي لا تذكر إلا مقرونة بالخضراء، فتعلقت همته بإرتياد هذا العالم الجديد و بتوفيق من الله تم له ذلك رفقة أحد أبناء قريته. و حلوا ذات خريف بالبلد الكبير الذي يعج بالحياة، و الناس، بالكتب و المدارس، و أصناف شتى من التلاميذ و الطلاب، و الأساتذة و الشيوخ، حيث ألفى نفسه مسافرا بين غضون حياة أخرى لا عهد له بها. دروس كالمحاضرات يظهر فيها الأساتذة براعتهم اللغوية و مهاراتهم في فهم النصوص و القدرة على التحليل و التأويل. و كان الفتى متلهفاً لنهل العلم من ينابيعه، الأساتذة و الدروس ثم المطالعة فكان يقرأ كل ما يقع تحت يده من الكتب يلتقط عناوينها من أفواه الطلاب و الأساتذة فيمضي بحثا عنها شراء أو استعارة أو اشتراكا في المكتبات، فقرأ نهج البلاغة، و اعتكف فترة طويلة على حفظ مجموعة لا بأس بها خطب الامام. و تمكن من مطالعة البيان و التبيين، و العقد الفريد، و الكامل،و الأغاني، و الوفير من كتب أخرى لا تبتعد كثيرا في موضوعاتها و أساليبها عن ذلك التي سبقت الاشارة إليها، و ما كاد يهتدي إلا بعد أن أضناه الترحال و التطواف بعوالم الكتب، الى قراءة طه، و الرافعي و العقاد و المنفلوطي و الزيات و أحمد أمين و جبران و سارتر، كان ذلك بعد حصوله على شهادة الأهلية سنة 1948 فطفق يقرأ دون أن يكون معنياً بمدى الاستفادة أو القدرة على الهضم و الاستيعاب.

أما تجربة الكتابة فقد ابتدأها بمحاولة الاجادة في مواضيع الانشاء منذ سنته الأولى بتونس، و ما أن أخذت تقترب تلك السنة من نهايتها، حتى خطرت له فكرة أن يكتب قصة، و لم يكن يعينه حينذاك أن تكون قصيرة أو طويلة، و قرن الفكرة بالعمل و كتب قصة لا يذكر عنوانها. أما حجمها فلعلها كانت تقارب العشرين صفحة و اما موضوعها فلا شك أنه الحب بآلامه و أحزانه و جنونه و أهواله، انطلاقاً من تجربة فاشلة و أشواق متأججة و أحلام مجنحة، و بعد أن انهها ظن أنه أنجز عملاً كبيراً و من ثمة لم يتردد في تقديمه الى أستاذ الانشاء و هو من أفصح و ألمع أساتذة تلك الفترة يدعى الطاهر الغمراسني رحمة الله. و لم يراجعه في الأمر الا مضي نحو نصف شهر، سأله فرد عليه و لعل دافع التشجيع و نية الاخذ باليد كانا وراء كلمات الاستاذ عندما قال له : "أهنئك بني، و لتكن مطمئنا من أن قصتك بعد اجراء تعديلات بسيطة عليها يمكنك أن تتقدم بها الى احدى مسابقات القصة لتنال بها جائزة لا تقل قيمتها عن عشرين ألف فرنك، و وعده باعادتها اليه بعد التعديل، و انتهت السنة الدراسية و تفرق التلاميذ، و لم تعد للتلميذ قصته ابداً، و لا أذكر أن التلميذ كتب قصة أخرى الى نهاية عام 1954 سنة شهادة التحصيل، حين أخذ يفكر في كتابة قصة طويلة يصب فيها كل ما لديه من مهارة لغوية و مكتسبات ثقافية و فنيات جمالية، و قد اختار لها اسم "إبراهيم" عنواناً، و انجزها فعلا و كانت في نظره كما أمل لها، و لعله توقف عن الكتابة بعد ذلك فترة طويلة، دون ان ينقطع عن مطالعة مؤلفات كل من: تشيخوف، ديستوفيسكي، ماكسيم، محفوظ، يوسف أدريس و غيرهم. و بعد مضي ما يقارب السنتين عاوده الحنين للكتابة، فجعل يكتب بين حين و آخر قصة قصيرة و لم يكن ينتمي في كتابة ما يكتب الى أي مذهب أو كان يحاول اتباع قواعد الفن القصصي المتعارف عليها في ذلك الزمن، و إنما يكتب فقط و كما اتفق. أما مواضيعه فجلها كانت ذاتية بكائية تشاؤمية لكنه و منذ الثورة التحريرية في نوفمبر 1954 تغيرت مفاهيم الحياة لدية و شرع يكتب عن قضايا الانسان الثوري، المناضل الشجاع، الفدائي الذي لا يبالي الموت بل يتحداه و يستطيب لقياه. و قد نشر منها قصتين في مجلة الشباب الجزائري التي كانت تصدر زمن الثورة بتونس، واحدة بعنوان "حنين" يتحدث فيها عن العودة للوطن و الاخرى بعنوان "رسالة مناضل" و القصتان مدرجتان ضمن مجموعة أشواق، و بغتة و قبل نيل الجزائر استقلالها قرر الشاب التوقف عن الكتابة الادبية، بعد أن تبين له عدم جدوى الكتابة، فلمن يكتب، و لماذا الكتابة أصلاً. قائلا في ذاته ما أكثر الذين كتبوا و الذين يحترفون الكتابة، و لكن أي شيء استطاعوا أن يحققوه غير النقود التي يكتسبونها ثمناً لما يحبرون حقا كان ذلك أو باطلا. و هل تمكن أحدهم أو بعضهم من تغيير الواقع أو تطوير إنسان، أو ازالة ظلم أو نفض غبار الجهالة و الجمود ؟ فلم اذن يجشم نفسه مشقة اضافة حفنة كلام الى بحار متلاطمة من الاقوال، أو زيادة صفحة الى جبال شاهقة من الاوراق، و ماذا لديه من جديد يمكن ان يعالج به النفوس المرضى بداء الانانية و حب الذات، و الكذب، و الخيانة، و النفاق، لكنه يدرك في ذات الوقت ان رصاصة واحدة وراءها عزيمة ثابتة، و امامها هدف واضح قادرة ان تعيد الرشاد الى الطغاة، الامل الى المحرومين ان تفتك الحق من مغتصبيه... هكذا اخذ يفكر و يقارن و لكنه لم ينقطع عن القراءة التي كانت بالإضافة الى مهامه الاساسية تتكاثر و تتنوع ثم اتسعت لتشمل الى القصة و الرواية و الشعر و التاريخ و الدراسات النقدية، مجالات  اخرى كعلوم النفس و الجتماع و الاجرام و القانون، و لكنه ظل ملتزماً بالانصراف عن محاولة كتابة القصة، فترة امتدت من نهاية 1964 الى غاية سنة 1975 عندها تأججت فيه الرغبة الى كتابة قصة بعنوان "و أخيرا ملك أرضاً" و صادف ان قراها الأديب العراقي عبد الامير حبيب الذي لا شك انه قرأ له : قصتيه القديمتين، فكتب قائلاً : " حالما تنتهي من قراءة قصص الحفناوي زاغز تجد نفسك أمام عمل جاد مخطط غير مفتعل كتب بطريقة عفوية هي الاسلوب الذي ينتهجه قاص جرب كثيراً فن الكتابة" و بالرغم من شعوره بالارتياح و الرضا عن النفس. ظل مجافياً للكتابة الادبية التي كان يعتقد أنه لم يخلق لها و ان التفوق فيها من رابع المستحيلات. و تصرمت السنوات الواحدة وراء الاخرى حتى سنة 1986 حينما التقى صدفة مع واحد من رفاقه القدامى في واحد مؤتمرات الحزب في مستهل تلك السنة فأخذ يعاتبه و يحرضه على الكتابة، قائلاً ان صفحات مجلة الثقافة التي كان يشرف عليها مفتوحة أمامه، و فاجأه الصديق ذات يوم بنشر احدى قصصه القديمة "حنين" فكان ذلك بمثابة الشرارة التي أضرمت في أعماقه حريق الحنين الى القلم و الحرف، و تملكته حمى الكتابة ان صح التعبير، فطفق يكتب و يكتب، ثم داهمته الرغبة في نشر ما يكتب، فصدرت له مجموعته الاولى بعنوان "أشواق" ضمنها ما ألفه حديثا و بعض ما كتبه في السابق. و قدمها للطباعة سنة 1986 لتصدر عام 1988 و من جملة ما قيل فيها : اكتفى بما كتبه الدكتور ابراهيم رماني في كتابه : أسئلة الكتابة النقدية : " ربما كانت الثورة التحريرية المحور المركزي في تجربة الحفناوي فهي الهاجس الفني الذي يستنبطه النص القصصي، يكتبه و يعيد كتابته، يبدو طاقة متجددة لا تنقطع و رمزاً جمالياً لا يبوح بكل أسراره ليبقى إشعاعاً دلاليا مستمرا" و يقول ايضا في ذات المصدر : "نستعيد عند قراءة قصة غربة بكائيات تجربة الحرية في الكتابة العربية، و ما أكثرها بكائيلت تغوص في و حل الذات، و خطايا التاريخ تاريخ السلطة، نستعيد اصداء ملحمة السقوط و الانهيار في التجربة الروائية لنجيب محفوظ، تجربة الحرية الغائبة و معادلة الخير و الجنس و المعرفة لكن اذا كان محفوظ قد جسد القضية في صيغة اجتماعية اساساً فان حفناوي اختار لها البناء الرمزي و الحوار الذي لا يخلو من نفس فلسفي سواء في لغته أو أفكاره" ثم صدرت للكاتب : قصتان طويلتان سنة 1989، في مجلد واحد احداها 'صلاة في الجحيم' التي يحمل المجلد عنوانها كتبت سنة 1986 بينما الثانية 'فتضحك الاقدار' كتبت عام 1987 و للاسف لم يحتفظ بما كتب عنها في الجزائر أما في تونس في مرحلة لاحقة قال فيها من لم يشأ ان يفصح عن اسمه :"الكتابة القصصية عند حفناوي زاغز و ان كانت محورية الحدث الا انها على المستوى الشكلي تعتمد المداولة بين السرد و الوصف مع تقطيع الحدث و اعتماد تغيير الفضاء بسبر أغوار النفس البشرية فهي كتابة أبعد ما تكون عن السردية الرتيبة و فيها للتقنيات الشكلية مجالاً لا ينكر" كما صدرت له رواية بعنوان "ضياع في عرض البحلر" سنة 1990 لعله كتبها خلال سنة1987 و قد كتب عنها الاستاذ محمد زتيلى ما يلي : " يبدو ان الكاتب غير مكترث بالتقليعات الشكلية بقدر اكتراثه بتقديم عمل أدبي يحقق المقروءية بالدرجة الاولى اي الاتجاه نحو القارىء المتوسط، و تساعده على هذه المهمة لغة تجمع بين السلاسة و الرصانة و سهولة التركيب و هو بهذا يستطيع الافلات من أزمة اللغة التي تعاني منها معظم الرويات العربية و الجزائرية" و في سياق حمى الكتابة كتب رواية الزائر سنة 1986 لتصدر عام 1992 و من بعض ما كتبته عنها الدكتور رماني مايلي :"هذه شهادة أدبية للكاتب الجزائري حفناوي أثرا جديداً يستكمل مساره القصصي و الروائي المتميز المتطور الحامل لرؤية تاريخية حضارية" و في ذات السنة 92 صدرت في تونس عن دار المعارف بسوسة رواية الفجوة التي كتبها سنة 1991 و مما قاله عنها ناقد من تونس لم يرد ان يكشف عن اسمه ما يلي :" لا يكاد القارئ الذي تتناهبه مشاغل الحياة و تتوزع أوقات فراغه اهتمامات شتى يقرأ الصفحة الأولى من هذه الرواية الغريبة العجيبة التي امتزج فيها الواقع مع الخيال و الأسطورة مع الحقيقة حتى تسلمه بالرغم عنه للصفحة التي تليها و هكذا" و قد كتب عنها الناقد الجزائري الأستاذ عياش يحياوي قائلاً :"هذا العمل الروائي الذي يركز على تحليل التناقضات الافقية في إمارة اختارها كحيز مَكاني رمزي عمل على تفتيت البيئة الاجتماعية و السياسية فيها و جعل الوجوه المتحركة في النص قريبة من هموم المواطنين..." و أخيرا خلال المنتصف الثاني من هذه السنة 1994 صدرت له رواية بعنوان "المكنونة" عن دار المعارف بسوسة قد كتبت سنة1988 و في علمي أن لدى الكاتب الآن ثلاثة أعمال جاهزة ااطباعة نشر منها في حلقات روايتين احداهما في الجزائر حوالي سنة 88 بعنوان "عندما يختفي القمر" و الثانية في تونس سنة 1990 بعنوان "الشخص الآخر" و قد كتبت حوالي سنة 1988 و العمل الثالث رواية انتهى من كتابتها في صائفة 1994 تحت عنوان "نشيج الجراح"

 

حول الكتابة :

كان الكاتب موضوع الحديث منذ ان تلبسه هاجس الكتابة و لم يزل، و سيظل يحاول جاهدا انتقاء الكلمة العذبة و العبارة المنسجمة الجميلة، لا يضنيه التحليق في سموات الفن لالتقاط الصور الاخاذة، و لا يمل من الغوص في أساليب كبار الكتاب يستهدي بها لتحقيق الافضل و قد راقته أساليب صنف من الكتاب دون غيرهم فانتهج أولا نهج أصحاب الجزالة في التراكيب و الشاعرية في الصور و الجمالية في الوصف، مع الاقتصاد قدر الامكان في استعمال المترادفات و الاوصاف مما يفضي للاسهاب و التكرار و الحشو. و طفق يجرب و يعيد و يمحو و يمزق الى أن ظن أنه اهتدى الى أسلوبه الخاص و طابعه الشخصي و هو راض حينا آخر. لكن لم يحدث ا نرسى به التجريب الى مرفاء الغرور و العجب. و انما هو دائماً يبحث عن الامثل و يسعى للاستفادة و التعلم. قرأ و اعاد القراءة و درس و عاود الدراسة بعد الجامع في الجامعة، و مع ذلك لم يزل يمخر بحار التجريب و التنقيب، و يطوف في فضاءات الاستقصاء و الاستزادة. الى ان غدت كتابته خاصة الحديثة منها تتسم بالعفوية و البساطة و السهولة و اليسر، و كان ان اختار الكاتب في بداءة أمره عن يقين و تصميم جنس القصة القصيرة و ذلك لاسباب جمة كان مقتنعاً بها الى ان حدث الانتقال الفجىء من القصة القصيرة الى القصة الطويلة ثم الى الرواية. و لعل من بين تلك الاسباب انه كان في شبابه عصبي المزاج قليل الصبر ميالاً لانجاز أي عمل دفعة واحدة و في أقصر وقت ممكن كمن يتخلص من واجب ثقيل لذلك. كان صنف القصة القصيرة أقرب الى نفسه قراءة أو كتابة و لكن مع تقدم العمر، و تعوده على الصبر، و ادراكه ان التسرع لا يفضي الى عمل جيد او حتى مقبول شكلاً او مضمونا، و في هذه المرحلة من العمر جعل يحاول كتابة الرواية و مضى فيها شوطاً غير قصير و لم يزل، و لا شك، أيها السادة الادباء أن العمل الروائي هو في واقع الامر حصاد الكاتب من التجارب التي مارسها و الاحداث التي عايشها، و الافكار و الرؤى التي تبناها و الاحلام و التصورات التي أحبت و تعلق بها، بل و أيضاً هو خلاصة ما يتبقى في أغوار الذاكرة مما قرأ و سمع و كل ما عليه هو أن يتولى صياغة جميع ذلك من خلال منظور الكاتب للحياة، و فهمه للنفس الانسانية، و فلسفته في الوجود، و اسلوبه في التفكير و طريقته في التعامل مع الناس، و سلوكه مع الجماعة و من ثمة قيل ان الروائي انما يخلق نفسه و يستمد حياة  شخوصه من ذاته، فينطقهم بما يود أن ينطق، و يحركهم في الارجاء مثلما كان يريد ان يتحرك و في الاتجاهات التي تشغله. يتجلى ذلك في إختيار الموضوع، و تحديد الشكل، و نوعية الشخوص، و ضروب القيم التي يعتنقون، و سبل العيش التي يفضلون. لكل ذلك تعتبر النفس البشرية و ما يعتمل فيها، و يتصارع بين أرجائها هي المادة الاساسية لكتابة رواية، و لا يتناقض هذا فيما أرى مع ما كان يغرفه صاحبنا من الواقعية الاجتماعية التي يحاول من خلالها ان يمزج بين التجريب و الذاتية، و الفكر و الحدث، و الوصف من الداخل و السرد الخارجي. و الحوار مع المونولوغ، فهو بإستخدامه تلك الادوات انما يسعى لتحقيق الهدف مما يكتبه. و كان صاحبنا كثيراً ما يطرح نفسه هذا السؤال : " لماذا لماذا عدت للكتابة و بهذا القدر من الكثافة و الحماس و الإندفاع أحياناً ؟ يا ترى استطعت ان أضيف جديداً في دنيا القراءة و الكتابة ... ؟ "

و كان يرد على نفسه و هو غير مبال ما اذا كان مقتنعا بما يقول أم لا : الفعل أبداً أفضل من الترك أيا كان هذا الفعل قولاً ، كتابة عملا، و قد قيل  : في البدء كانت الكلمة بمعنى ان الكلمة تسبق الفعل و ان الاحداث الكبرى منها و الصغرى تأتي نتيجة للكلمة، فاذا كان الامر كذلك فالكتابة تغدو اكثر الحاحاً و اشد ضرورة خاصة في عصر كالذي نعيش فيه و قد إتسعت فيه الفجوة بين الطبقات، و تفاقمت دواعي الانحراف و الاجرام، و تزايدت أسباب الخوف من المستقبل. عصر اختل فيه التوازن و انفراط عقد التآلف و الاخاء و يضيف قائلاً : و انا ان عدت للكتابة فمن اجل محاولة التغيير، قلب المفاهيم، التنديد بالفساد و القهر و الظلم. فهو اذن لا يعنيه اطلاقا استرضاء الآخذين بالحداثة و ما بعد الحداثة ليقول اشياء دون ان يتوخى من خلالها تحقيق هدف و انما يكتب انطلاقا من كون مجتمعاتنا العربية في الوقت الراهن تحيا مرحلة ما قبل الحداثة حيث محور الصراع بين الانسان و الطبيعة حتى و ان اعتمدت مختلف شعوب امتنا على استعمال التكنولوجيا المستوردة و الانظمة الجاهزة، و الاساليب العلمية المقتبسة أو المسروقة، فلهذه الاسباب و غيرها ليس امامه الا ان يرفض و بعمق الكتابة غير المسؤولية او البعيدة عن الالتزام فقط من أجل ارضاء الآخرين. بل يرى الابد ان يكون انتاجنا انعكاسا لواقعنا الحقيقي غير المزيف، و تجسيداً لمجتمعاتنا التي تعاني التخلف و الانقسام و التمزق و الركض حفاة وراء حضارة تفصلنا عنها بيد وراءها بيد.

و قلت له مرة : " و أين أنت من القراء الذين تصرفهم عنك و عن غيرك بدائل من الفنون ؟ و انواع من الوسائل الترفيهية غير الكتاب ؟ " فقال : " لست مع القائلين علي أن أكتب كلمتي و أمضي فمن  شاء انصرف عني الى أشياء أخرى، و انما يجب ان يفكر الكاتب و هو يكتب كيف يصل الى ذهن القارىء كيف يمكنه ان يجعل أفكاره و أراءه تستقر في أغوار ذاته كيف يجعل كلماته مطرا يهمي على النفوس العطشى، أن يستغل كل الادوات الفنية لكي يمسك بتلابيبه و يحول دونه، و التوجه الى مباهج أخرى تعج بها الاجهزة التي تلتقط مادتها المتنوعة من الاقمار الصناعية. سكت ثم اضاف و لست أبداً و لن أكون في صف الذين يكتبون مالا يفهم، و يحاولون ان يجعلوا منك و منك و مني متسلقا للجبال الوعرة أو ذاك المغرم بفك الالغاز المسكون باكتشاف المجاهيل، بدعوى ان على القارىء المعاصر ان يساهم معهم في التأليف و التطريز، و الت....."

فقلت له متسائلاً "و هل ادركت يا صاح بعض ما تطمح اليه؟" فقال : حسبي اني حاولت و لن أكف عن المحاولة حتى احقق بعض ذلك او اموت دونه.

و السلام عليكم و رحمة الله تعالــــــــــــــــــــــى.